تستحق هذه الحرب أن لا تعقبها هدنة

في واحد من تصريحاته الأخيرة قال نتنياهو أنه وضع أهدافاً للحرب على غزة، إلا أنه لم يضع مهلة زمنية لانتهائها. وكما هو معلوم فقد استهلّ نتنياهو إعلانه الحرب بهدف استئصال حماس نهائياً، لا بهدف القضاء على سلطتها فحسب أو حتى القضاء على كوادرها العليا والمتوسطة، وهذا ما أكّد عليه مؤخراً وزير دفاعه الذي توعّد بأنه لن يكون للحركة وجود في غزة بعد انتهاء الحرب. 

فحوى التصريحات السابقة أن الحرب قد تستمر شهوراً وربما سنوات، إذا كان الهدف حقاً تصفية آخر عنصر من حماس. لكن واحداً من الأسباب التي تجعل الحرب تطول هو غياب الأهداف القابلة للتحقيق فيما يخص القضاء على حماس، وما يتعلق باليوم التالي على انتهاء الحرب. فمن الواضح أن الحكومة الإسرائيلية لم تقدّم تصوّراً مقبولاً من واشنطن أولاً، ومن سلطة أبي مازن وحكام عرب معنيين ثانياً، من أجل إدارة غزة بعد انتهاء الحرب.

المطلوب لإنهاء الحرب إدارة للسجن المسمّى غزة، والذي سيكون بشروط أقسى مما كان عليه تحت إدارة حماس، حيث سيحتفظ الجيش والمخابرات الإسرائيليين بإمكانية وحق ملاحقة الفلسطينيين في القطاع متى شاء، فوق الحصار المضروب أصلاً بالسيطرة على كافة المنافذ البرية والبحرية والجوية. مطلوب إدارة متعاونة مع تل أبيب ضمن هذه الشروط، من أجل تلقين الفلسطينيين درساً نهائياً في الرضوخ التام للعقاب الجماعي القديم والمستجد.

هناك اليوم تكهنات مفادها أن نتنياهو لا يريد إيقاف الحرب، لأنه مهدد متى توقفت بالخضوع للمساءلة التي ستقضي على وجوده السياسي. بل ثمة أقاويل عن رغبة أمريكية في إزاحة نتنياهو فوراً لصالح بيني غانتس شريكه في الائتلاف الحكومي، إلا أن الأخير عارض الخطوة في تصريحات له نُشرت يوم الأثنين. ورغم موقف واشنطن الرسمي المؤيد لاستمرار الحرب إلا أنها لا تريدها حرباً بلا نهاية أو توقف، ولا تريد بقاءها على توقيت نتنياهو الذي ربما يتوق إلى فتح الجبهة اللبنانية. 

باستثناء الموقفين الإسرائيلي والأمريكي، يمكن القول أن الميل العام عالمياً لصالح المطالبة بوقف الحرب، وهو موقف يتعزز لدى فئات مؤيدة لإسرائيل ترى أنها ثأرت بما يكفي لمقتل 1200 شخص في هجوم حماس. وبالطبع لا يمكن لعاقل، أو ذي إحساس إنساني مهما تدنى، سوى المطالبة بوقف الإبادة والتهجير. بل من المفهوم أيضاً أن تدفع صور المقتلة إلى المطالبة بوقفها بأي ثمن كان، والحديث هنا عن مشاعر لأفراد يريدون لأطفال غزة وباقي أهلها الحياةَ لا الموت، خاصة إذا كان الموت مجانياً وغير طوعي.

لكنّ ما تتمناه الجوارح بقوة وصدق يحتاج أن يُترجَم سياسياً ليغادر المشاعر والتمنيات إلى الواقع، وهو لن يصبح واقعياً إلا بقوة السياسة. وبلغة مجرّدة قدر الإمكان نفترض أن المهم الذي يتجاهله الفاعلون السياسيون هو أن مقتل 1200 إسرائيلي والانتقام لهم بقتل ما يزيد عن 11 ألف فلسطيني حتى الآن؛ هذا العدد من الضحايا على الجانبين يستحق ألا تنتهي الحرب بمجرد هدنة بين الجانبين. والقوى الدولية التي أظهرت غيرة على أمن الإسرائيليين وحيواتهم ينبغي أن تكون في طليعة مَن يسعى بعمق لتكون هذه آخر المواجهات الدموية، طالما أن القوى ذاتها لا تتبنى تصفية الفلسطينيين بقتلهم وتهجيرهم على نحو تام ونهائي.

ما هو مطروح حتى الآن من قبل كافة الفاعلين لا يتعدّى العودة إلى وضع أسوأ مما كان عليه من قبل، وهذا مناسب حقاً لمن يريد التوقف عند القول: انظروا إلى المأساة التي تسببت بها حماس للفاسطينيين. وهو لا يُقال الآن سوى بهدف تبرير العقاب الجماعي وجرائم الحرب، فوق أنه يرى السياسة بمنطق الرضوخ للأقوى، أي أنه يستقوي بآلة الحرب الإسرائيلية، بدل التفكير بنزاهة كي لا يكون العنف والإرهاب الوسيلتين الوحيدتين المطروحتين أمام طرفي الصراع.

كان وزير الدفاع الإسرائيلي قد وصف الفلسطينيين في مستهل هذه الحرب بالحيوانات البشرية، وهو توصيف لا يتوقف عند تشريع الإبادة، بل يتعداها إلى تشريع الإبقاء على الأحياء منهم لاحقاً في مستوى دون ما يستحقه البشر. وهنا يتفق كثر مع الوزير المذكور حين ينظرون إلى بقاء الفلسطينيين على قيد الحياة بوصفه هدفاً كافياً ونهائياً، مع أنه العتبة الأدنى الذي يجب وضعها في وجه جميع الفاعلين، ومنهم أية قوة داخلية تضحّي بحيواتهم من دون تفويض ومن دون هدف يرونه مستحقاً.

يلزم قليل من النزاهة والإنصاف لرؤية العنف أولاً كوسيلة سيطرة للأقوى، ثم يكون فيما بعد وسيلة الأضعف عندما تُسدّ في وجهه بقية الاحتمالات، وأن الإرهاب كما ظهر في العديد من التجارب يعبّر عن اختلال كبير جداً في موازين القوى يُقابَل بالعنف والعدمية السياسية معاً. والحق أن الحذر الواجب هنا هو ألا ينزلق التوصيف إلى تبرير العنف، لأن التفكير مع الضحايا يُستحسن أن ينصرف إلى التخلص من أسبابه تجنباً للعدمية، والإقرار بحقهم في المقاومة السلمية لا يستقيم أصلاً من دون الإقرار بتعرّضهم للتعنيف، ومن دون التفكير معهم في ممكنات حقيقية بدل الواقعية الفظة التي تضمر لومهم لأنهم لم يمتثلوا بما يكفي للأقوى.

بعد أسابيع أو شهور، لن نعدم أولئك الذين سيتداولون المقارنة الشعبوية بين الإسرائيليين الذي سيحاكمون "معنوياً أو قضائياً" نتنياهو والفلسطينيين الذي دفعوا غالياً جداً ثمن هجوم حماس من دون القدرة على محاكمتها، إذا بقي لها وجود فعلي. هي مقارنة فقيرة ممجوجة إذا كانت الغاية منها الإشارة إلى ما هو معلوم عن فقدان الديموقراطية لدى شعوب المنطقة، وتخفي فيما يخص الجانب الإسرائيلي أكثر مما تقول، ومن ذلك أن المطالبة "التي بدأت منذ هجوم حماس" بمحاكمة نتنياهو تقنية إلى حد كبير، إذ يُتهم بحكم مسؤولياته بعدم حمايته الإسرائيليين كما ينبغي، وهي التهمة التي يسعى منذ أسابيع إلى تلافيها من خلال العمل على مستقبل أشدّ وطأة للفلسطينيين. 

بعبارة أخرى، بموجب المعلَن الآن، لن تُحاكَم مع نتنياهو فكرةُ الحماية الأمنية وفكرة تعزيزها إلى ما لا نهاية في سباق لا ينتهي مع تطوير أدوات وسُبل اختراقها، ولن تُحاكم فكرة الحماية الأمنية بوصفها أسلوباً مستداماً مبنياً على فكرة الهدنة، ما يقود إلى مساءلة فكرة الهدنة ذاتها. يعلم الإسرائيليون قبل غيرهم أنه لا قوة دولية ستجبرهم على السلام، وأن الانتقال إلى سلام حقيقي عادل مستدام إما أن يكون مطلباً إسرائيلياً أو لا يكون؛ يستحق 1200 قتيل إجابة لا تنطلق كالمعتاد من الجرح النرجسي الإسرائيلي.

المصدر: المدن